هذا موضوع دقيق وحساس، من النوع الذى قد يغامر المرء بالخوض فيه، ويشعر بالذنب إذا سكت عليه. تتمثل حساسيته فى انه يتعلق بالجيل الثانى من أبناء كبار المسئولين العرب، الذين يثار من حول ممارساتهم وعلاقاتهم الكثير من اللغط والهمس فى مختلف العواصم العربية، والذين يقدر لهم أن يترددوا على تلك العواصم يسمعون ذلك الهمس بوضوح، ويستشعرون إزاءه خليطا من الحيرة والحزن. الحيرة لأن ما يسمعونه يصعب تصديقه، كما يصعب التثبت منه.

والحزن لأنهم لا يستطيعون استدعاء ملف الموضوع ومناقشته فى العلن، على الأقل للتثبت من معلوماته. حدث ذلك معى فى مرات عدة، ولابد أنه يحدث مع غيرى بطبيعة الحال. والذين يترددون على العواصم الأوروبية يسمعون أضعاف ما يتردد فى دوائرنا الضيقة. خصوصا أن الشائعات والأقاويل التى تتردد هنا هى فى الأغلب صدى لما يحدث هناك.

لا أتحدث عن البذخ الذى يبلغ حد السفه الذى يعيش فى ظله أبناء أولئك الأكابر حيثما حلوا فى العواصم الأوروبية، سواء فى فنادقها وملاهيها أو فى صالات القمار التى يتجلى فيها ذلك السفه فى أبعد صوره، حتى ان أحدهم ظل يخسر ذات ليلة، حتى خسر فى الرهان الطائرة التى قدم عليها، ولم ينقذه من الورطة سوى تدخل «نسيب» من عاصمة أخرى فى آخر الليل. مع ذلك أزعم أن هذا البذخ أهون مما أقصده، رغم ما فيه من فحش وسفه. ذلك ان ما فى بالى أتعس وأشد فحشا. إذا سألتنى كيف، فإليك الحكاية، أو القدر الذى يمكن البوح به من معلوماتها.

ذلك ان أغلب كبار المسئولين، خصوصا العائلات الحاكمة فى العالم العربى يوفدون أبناءهم للدراسة فى العواصم الأوروبية، التى ترحب بهم سواء فى الكليات العسكرية أو فى بعض الجامعات التى تقدم لهم شهادات خاصة، من ذلك النوع الذى تنفصل فيه الشهادة عن العلم والمعرفة، وكثيرا ما يمنح «الطالب» الشهادة والإجازة، وأحيانا تعد له رسالة الدكتوراه، دون أن ينتظم فى الدراسة أو يكلف خاطره فتح كتاب أو الاستماع إلى محاضرة باعتبار ان «مقاماتهم» أكبر من كل ذلك. وغاية ما يمكن أن يحصله هؤلاء الشبان أنهم يتمكنون من اللغة الإنجليزية، بالقدر الذى يسمح لهم بالتعبير عن أنفسهم والتواصل مع الآخرين، إلى جانب أن ذلك النوع من التحصيل هو أيضا من قبيل التشبه بالأجانب الذى يعوض شعور بعضهم بالنقص إزاءهم.

أحيانا يكون بعض أولئك الشبان تحت رعاية الأصدقاء الأجانب ذوى العلاقات الخاصة مع أكابر الغرب، وأحيانا يترك أمر «رعايتهم» للجهات المختصة فى الهيئات العلمية التى يلتحقون بها. لكن الأهم من ذلك أن جهات عدة ذات مصلحة تتابعهم، وتنسج من حولهم شباكا تستهدف فى حدها الأدنى استمالتهم والتواصل معهم، ومن ثم ينخرطون معهم فى علاقات معقدة، ظاهرها يوحى بالبراءة وسلامة القصد. ولأنهم جميعا يعودون إلى أوطانهم لكى يحتلوا مواقع محجوزة لهم فى صدارة السلطة ببلادهم، فإن تلك العلاقات التى تم نسجها يحين أوان استثمارها، ومن ثم حصد ثمار ما تم زرعه فى سنوات «الدراسة».

ما يهمنا ويزعجنا فى ذلك الاستثمار أنه يستهدف مجالين أساسيين هما: السياسة والاقتصاد. إذ يراد به التأثير على سياسات الدول التى ينتمون إليها وعلى قراراتها الاقتصادية، التى تتعلق بالصفقات الكبيرة فيها. وحين يكون أصحاب المصلحة فى ذلك الاختراق هم الإسرائيليون والأمريكيون، فإن قناع البراءة يختفى من المشهد، ويظهر لنا فى الصورة الوجه القبيح لتلك العلاقات التى نسجت خيوطها منذ سنوات الدراسة المبكرة.

هذه الخلفية تقبع وراء الشائعات التى تروج فى بعض الأوساط عن اختراقات إسرائيلية كبيرة للجيل الثانى من أبناء بعض المسئولين العرب (منهم من كان ثوريا يوما ما). وعن اجتماعات يحضرها هؤلاء وهؤلاء فى لندن وباريس وجينيف. بل إن الشائعات تتحدث أيضا عن بعض أبناء مسئولين كبار فى الأجهزة الأمنية التحقوا بشركات خرجت من رحم ذلك الاختراق، وعن دخول عناصر فلسطينية فى اللعبة.

أرجو أن يغفر لى كتمان الأسماء والتفاصيل للأسباب التى لا تغيب عن فطنتك. ذلك ان أى خطوة أبعد مما ذكرت توقعنا فى المحظور وتلك مهمة أحيلها إلى المستقبل، أملا فى أن تتسرب يوما ما وثائق المشهد، من أى «ويكيليكس» يظهر فى الأفق.