كانت فرحة عظيمة، لحظة لا أقدر علي وصفها ولا الحديث عنها بتلك الدقة لقوتها وكان في بالي هدف لقاء الأستاذ سيد إبراهيم هنا يصعب الحديث عن ذاك الزمن وأنا أركب أول عتبة بمدرسة تحسين الخطوط حيث كان الوقت مساء وكنت أمني النفس للقائه وبالمصادفة كان يوم ذهابي هو يوم حضوره وتواجده بالمدرسة التقيته وعرفته باسمي كونه هو الذي وقع قبولي أقصد توقيع الموافقة والقبول علي نماذجي الخطية للالتحاق بالدراسة بمدرسة تحسين الخطوط بيده الكريمة، كانت كلمة مقبول بتوقيعه الشهير ذاك الذي يوقع به لوحاته. أحسست بأنني أمام عملاق.. رهبة كبيرة تكون دائرتها خارج الوصف والشرح، خفت قليلا الرهبة بسبب المفاجأة التي وجدتها المتمثلة في تواضعه الكبير واللافت أيضاً رغم اعتباره من شيوخ الخط العربي في الوطن العربي ومن كبار اساتذة هذا الفن. شدني كثيراً هذا الرجل والذي خالجتني أشياء كثيرة عنه باعتبار أن هذا الرجل ليس خطاطا وحسب انما يضم بين جوانحه عوالم كبيرة، فنية منها وأدبية وانسانية، أنا محظوظ حقا، وجدتني أمام كنز من المعرفة الإنسانية، انه نفس شاعرية تعلقت به كثيراً وحرصت أن أكون قريبا منه. مع احترامي لكل اساتذتي، كنت أعتقد أن هذا الرجل صعب رؤيته أو الالتقاء به خارج اطار المدرسة، بعد فترة طلبت زيارته في منزله وإذا به يرحب بتلك الزيارة وأبدا لم يبد اعتراضا ولا تهربا ولم تظهر علي ملامحه بوادر الاعتراض عدم الرضا والتضايق مثلا، أقصد مني وأنا الشاب الصغير اليافع القادم من منطقة الخليج العربي، عموما اتفقنا علي موعد وذهبت إليه وكان احساسا غريبا ينتابني حقيقة لا أعرف بالضبط ما هو؟ كأني طير يسبح في الهواء بسيارة التاكسي في الطريق إلي مدينة نصر حيث كان يسكن هناك وكان دليل عنوانه المكتوب بخط يده. ومن فرحتي الكبيرة وصلت المكان قبل الموعد بنصف ساعة بالضبط حيث كان الموعد الساعة الرابعة مساء.. انتظرت نصف الساعة فقط.. عندما قرعت الجرس انفتح الباب وإذا هو واقف أمامي بعظمته وقوته وشموخه، قبلت جبينه وأنا الشاب الذي لم يتجاوز الثلاثة والعشرين ربيعاً من العمر. دخلت المنزل أحس وقتها بشئ ربما منضوج وكان ملتفا بعباءته العربية في هذا الجو غير العادي وكأن أفلاكا تحوم حوالي، طبيعي جداً.. أحس بحرجي فراح يكلمني باللهجة المصرية.. أزيك يا بني إن شاء الله مرتاح في مصر هل لديك مشكلة في السكن هنا؟

لم يأت بسيرة تتعلق بالخط العربي ولم يتطرق إلي اموره، لقد كان تربويا فطنا كل هذه المقومات فقط ليذيب تلك الرهبة المرسومة وليبعد الخوف الواضح علي فعل ذلك ليعيدني ويجعلني في الجو سألني يابني بتشرب الشاي أم القهوة- علما أنه لم يكن في استقبالي وحده بل كانت ابنتاه سنية وسعاد وخالد الإبن الأصغر، الظريف أنه عندما سألني أيهما تفضل شرب الشاي أم القهوة انه له طريقة خاصة في تحضير الشاي حيث شجرة ليمون مزروعة بمنزله كان يبتغي من كل ذلك ابعاد الرهبة التي أنا فيها أمامه وبين عائلته بعدهها أخذني إلي عالمه الخاص.. مكتبته.. مرسمه.. بدأ يتكلم ويشرح لي في تاريخ الخط العربي، فتح ذهني علي أدبيات الفن والتراث والتاريخ، علي أهمية القراءة، هو من دلني علي كتاب صبح الأعشي لمؤلفه القشللندي خصوصاً الجزء الثالث والرابع اللذين يعدان مرجعا اساسيا لكل دارسي فن الخط العربي كما أهداني محاضراته التي كان يلقيها علي طلبة الدراسات العليا- الماجستير- بالجامعة العربية.

بعدها بدأ الحديث عن تاريخ الكتابة وأخبار الخطاطين وكيف تعلم وأخذ الخط العربي عن مؤنس،علماً بأنه لم يكن من تلاميذه بل من تلاميذ محمد جعفر بك أحد تلاميذ مؤنس زاده أحد رواد الخط العربي بالمدرسة المصرية لذلك تري مسلكه ومذهبه الخطي شبيها بهذه المدرسة لقد كان موهوباً منذ صغره هكذا تذكر جميع المصادر التي تناولت حياته وكذلك ما ك ان يذكره معاصروه.
Image
عبد الاله العرب مع سيد ابراهيم

كان هدفي وأمنيتي هو لقاء سيد ابراهيم وكأني وأنا ذاهب إلي هناك ذاهب إلي مدرسة بكل معطياتها، هذا من ناحية فنية مختزلة تماماً عند تعرفي عليه وتقربي منه. وجدت نفسي أمام عالم كبير ليس في الخط فقط وإنما في الأدب وفي الشعر.. في الحياة والحكمة أيضا- للعلم أنه كان أحد مؤسسي جماعة أبولو الأدبية- في ثاني زيارة لي إلي بيته تكلم عن الخط..آدابه، تكلم عن الآخرين وما تربطه من علاقات وثيقة بهم كأمير الشعراء أحمد شوقي ومثلها مع المفكر والأديب العقاد والكثير من الأدبباء المصريين الذين عاصرهم دون الإشارة إلي نفسه بشئ.

وجدتني أمام رجل من خلال حديث مقتضب بأن هذا الرجل موسوعة فنية أدبية ولا أكون مبالغا إذا أقول موسوعة علمية.. ربما يجهل الكثير هذا الرجل في مصر والعالم العربي إلا القلة القليلة من المهتمين وممن تعرفوا عليه عن قرب هذا الانبهار الصادق بسيد ابراهيم هو ما جعلني كثير الالتصاق به والتردد عليه وفي كل زيارة إليه أتعلم شيئا جديدا في الفن والحياة ولا أبالغ أن قلت أنه معين لا ينضب وان له مكانة خاصة في نفسي كونه نورني وهداني إلي الكثير.. الكثير من الأمور الحياتية من مثل قراءاتي وتحببي للأدب العربي القديم سيما وهو شاعر مبدع مجيد.

حقا أنه حياة لجيل هو يسبقه بسنوات لكنه فضاء مفتوح لعدة أجيال لم أجد في حياتي شخصا.. خطاطا إلا ويجل هذا الرجل ويحترمه وأسألوا القاصي والداني ممن عرفوا سيد ابراهيم وأطلعوا علي تجربته الابداعية في مجالي الخط العربي والأدب.

كنت متواجداً بالقاهرة قبل سنة من تأسيس المدرسة فمن الطبيعي جدا أن تكون زيارتي للأستاذ سيد ابراهيم من أوليات محطات برنامجي حيث التقيته وأعلمته بأنني قد تقدمت بطلب للتعليم الخاص بالبحرين وأن وصيتك وأمنيتي سوف تتحقق عن قريب فاستقبل الخير بفرحة ومسرة لذا لم يبخل اطلاقا بتشجيعي ودفعي لهذا المشروع في أقل تقدير معنوي، كما استشرته في بعض الأمور الفنية وطرق تدريس مبادئ الكتابة حيث وافقني في الكثير من هذه الأمور منها.. البدء بالأبجدية وأكد علي جانب الأصول في كل البدايات كما أشار إلي تعليم الخط العربي ليس تحسينا للخط انما هو تعليم فنون الخط أصوله وموازينه الجمالية.

كما أكد لي علي ضرورة تعليم الطالب كيفية بري القلم، عمل المحبرة وتحضيرها والطريقة السليمة للجلوس أثناء الكتابة وأهمية الجانب الأدبي في تعليم الخط من خلال الأقوال المأثورة من أدب وحكم وشعر كونها تثري الذائقة الحسية والفكرية وتحببه إلي الكتابة.

بعد السير علي هذا المنهاج وجدت أن الطالب يخرج بحصيلتين أو أكثر منها اطلاعه علي جوانب مهمة ومضيئة من الحكمة والأدب وانهماكا وغوصا واستمرارا في التمرين والكتابة ايضا بهذه الارشادات التعليمات الحكيمة من استاذي الكبير سيد ابراهيم ابصرت الطرق الصحيحة في تعليم اصول الخط العربي وكأنني موسوعة كبيرة من كلامه الجميل المختزل.. أقول ذلك لكون هذا العلم كان قليل الكلام.. هدوءه العميق الحكيم والمتأمل دائما ما يشي بحكمه.

سيد ابراهيم هو أقربهم إلي قلبي ونفسي ولا يتملكني أدني شك ولا حرج في الذاكر والاعتراف والتأكيد مرات ومرات بمكانته وأثره وتأثيره علي.. علي مستواي..علي ما أنا عليه حاليا في المجالين الفكري والفني أن جاز التعبير هذا لا يعني اطلاقا نكران دور بقية شيوخ الخط الذين كنت أيضاً من المحظوظين فعلا في التلمذة ولو بحرف واحد علي أيديهم.أقول ذلك.. حقا أني لم ارتو بعد من فكر سيد ابراهيم بحكم ما ساقته الأقدار لكوني تعرفت عليه متأخراً.

يقول سيد ابراهيم:

كلـفت نفسي بالفــن وكم للـــــفن ســـــحر

ـقد أضـاع العمــــــر ريعـانه خـــط وشـــعر

كلما سطرت سطرا ضاع من عمري سطر

يختصر الأستاذ حياته بهذه الأبيات لذا نجد عمق الحدية في تكليف نفسه بالخط العربي وفنونه وبالمناسبة كان سيد ابراهيم يجيد كل أنواع الخطوط العربية بلا استثناء وهو الخطاط الوحيد الذي أحيا خط الريحان المندثر وهو الوحيد أيضا من بين الخطاطين الذي يكتب الخط الديواني الجلي علي أتم قواعده وهو من احياه في مصر والوطن العربي كما كان يجيد خط الرقعة علي طريقة الخطاط التركي محمد عزت.

أما أسلوبه فانه يمتاز بميزة أصيلة تتمثل في رشاقة حروفه ووضوح تركيباته العادية والتكوينية وحتي وان اضطر لكتابة الثلث الجلي تجد روح الثلث العادي متمثلة وحاضره في هذا النوع المذكور، بمعني أن أية خطاط أو متذوق لفن الخط العربي عندما تبصر عيناه خطا لسيد ابراهيم وان خلا من توقيعه المشهور يعرف أن هذا الخط أو اللوحة لسيد ابراهيم لديه أسلوب فني بصري بسيط، كان يتصور اللوحة-التكوين-قبل أن يشرع بكتابتها حيث كان يراعي تماما مسألة التضاد المتحصل من تركيب الحروف أو الكلمات في اللوحة مراعيا هذا الجانب البصري والقيمة الجمالية لها التناغي ما بين الكتلة والفراغ أعين الكتلة هنا متمثلة في الحرف أو الكلمة والفراغ ذاك البياض المتحصل من المسافات المدروسة بينها، تجد بياضا منسجما تماما مع سواد الحروف، استطيع القول بأن سيد أسلوب سيد ابراهيم الخطاط العربي المصري لن يتكرر وأنا تلميذه يصعب علي محاكاة كتاباته مثلا، وكان كثير الثناء علي الخطاط المصري محمد حسني لما تمتاز به تركيباته من قوة وجماليات ودائما كان يكرر أن هذا الخطاط خطير.. خطير، إلا يجدر بنا تأمل مثل هذا الحال، علما بأن سيد ابراهيم سبقه في الإجادة والكتابة.

سيد ابراهيم أخذ عن الخطاط التركي حسين حسني بعض الأمور الفنية لأنه كان وقتذاك خطاط الديوان الملكي إلا أنه لم يمكث في مصر طويلاً حيث هاجر بعدها إلي الشام وقد زامل الخطاط التركي الشهير الشيخ عبدالعزيز الرفاعي بمدرسة تحسين الخطوط العربية وتعرف صديقا إلي رئىس الخطاطين بأستنبول الحاج أحمد كامل الذي استقدمه الوصي علي العرش آنذاك بمصر الأمير محمد علي لخط الآيات القرآنية في قصر الأمير محمد علي بالمنيل بالقاهرة وقد سبقت خطوط رئىس الخطاطين الحاج أحمد كامل لوحة رخامية للأستاذ سيد ابراهيم علقت بهذا القصر المذكور وكانت لوحة جميلة حقا كتبت بخط الثلث الجلي علي أتم قواعده وأصوله ما زلت أتذكر نصها جيدا، حدثته عنها في أحد لقاءاتي به فسألني هل تحفظ النص المكتوب فأنشدت له البيتين:

أسست هذا علي أس التقي أم عباس ملاذ المعوزين

أيها الظامئ قف نلت المني في حمي جدتي أم المحسنين

ومن المفارقة.. الصدف أنه حكي لي قصة ساعة كتابة نصف هذه اللوحة عندما وصل لخط صدر البيت الثاني أيها الظامئ قف نلت المني هطلت أمطار غزيرة علي القاهرة ذاك الوقت غير متوقعة وعلي غير عهد لمناخ القاهرة ان صح التعبير كون القاهرة لا تمطر سماؤها الا قليلاً بخلاف الاسكندرية

عبدالاله العرب-البحرين

نقلا عن جريدة الأيام 2003

سيد إبراهيم خطاط عظيم ويظهر هذا من أعماله الجليلة